فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}.
حكاية مقالة أخرى من مقالات تكذيبهم الرسولَ عليه الصلاة والسلام، وقد عنون عليهم في هذه المقالة ب {الذين لا يَرجُون لقاءنا} وعنون عليهم في المقالات السابقة ب {الذين كفروا} [الفرقان: 4] وب {الظالمون} [الفرقان: 8] لأن بين هذا الوصف وبين مقالتهم انتقاض، فهم قد كذّبوا بلقاء الآخرة بما فيه من رؤية الله والملائكةِ، وطَلَبوا رؤية الله في الدنيا، ونزولَ الملائكة عليهم في الدنيا، وأرادوا تلقي الدين من الملائكة أو من الله مباشرة، فكان في حكاية قولهم وذكر وصفهم تعجيب من تناقض مداركهم.
واعلم أن أهل الشرك شهدوا أنفسهم بإنكار البعث وتوهّموا أن شبهتهم في إنكاره أقوى حجة لهم في تكذيب الرسل، فمن أجل ذلك أيضًا جعل قولهم ذلك طريقًا لتعريفهم بالموصول كما قال تعالى: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدّله} في سورة يونس (15).
و{لولا} حرف تحضيض مستعمل في التعجيز والاستحالة، أي هلا أنزل علينا الملائكة فنؤمن بما جئت به، يعنون أنه إن كان صادقًا فليسأل من ربه وسيلة أخرى لإبلاغ الدين إليهم.
ومعنى: {لا يرجون} لا يظنون ظنًّا قريبًا، أي يَعُدّون لقاء الله محالًا.
ومقصدهم من مقالهم أنهم أعلى من أن يتلقوا الدين من رجل مثلهم، ولذلك عقب بقوله: {لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوًا كبيرًا} على معنى التعجيب من ازدهائهم وغرورهم الباطل.
والجملة استئناف يتنزّل منزلة جواب عن قولهم.
والتأكيد بلام القسم لإفادة معنى التعجيب لأن القسم يستعمل في التعجب كقول أحد بني كِلاب أو بني نُمير أنشده ثعلب في مجالسه والقالي في أماليه:
أَلاَ يَا سَنا برققٍ على قُلَللِ الحِمى ** لَهِنَّك مِنْ برققٍ علي كريمُ

فإن قوله: من برق، في قوة التمييز وإنما يكون التمييز فيه لما فيه من معنى التعجب.
والاستكبار: مبالغة في التكبر، فالسين والتاء للمبالغة مثل استجاب.
و{فِي} للظرفية المجازية؛ شبهت أنفسهم بالظروف في تمكن المظروف منها، أي هو استكبار متمكن منهم كقوله تعالى: {وفي أنفُسِكم أفلا تُبصرون} [الذاريات: 21].
ويجوز أن تكون {في} للتعليل كما في الحديث «دخلتتِ امرأة النارَ في هِرَّةٍ حَبَسْتَها» الحديث، أي استكبروا لأجل عظمة أنفسهم في زعمهم.
وليست الظرفية حقيقية لِقلّة جدوى ذلك؛ إذ من المعلوم أن الاستكبار لا يكون إلا في النفس لأنه من الأفعال النفسية.
والعُتوّ: تجاوز الحد في الظلم، وتقدم في قوله تعالى: {وعَتوا عن أمر ربّهم} في الأعراف (77).
وإنما كان هذا ظلمًا لأنهم تجاوزوا مقدار ما خولهم الله من القابلية.
وفي هذا إيماء إلى أن النبوءة لا تكون بالاكتساب وإنما هي إعداد من الله تعالى قال: {الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124].
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)}.
استئناف ثان جواب عن مقالتهم، فبعد إبداء التعجيب منها عُقّب بوعيد لهم، فيه حصول بعض ما طلبوا حصوله الآن، أي هم سيرون الملائكة ولكنها رؤية تسوءهم حين يرون زبانية العذاب يسوقونهم إلى النار، ففي هذا الاستئناف تلميح وتهكم بهم لأن ابتداءَه مطمع بالاستجابة وآخرَه مؤيس بالوعيد، فالكلام جرى على طريقة الغَيبة لأنه حكاية عن تورّكهم، والمقصود إبلاغه لهم حين يَسمعونه.
وانتصب {يوم يرون} على الظرفية لِ {لاَ بُشرى}.
وتقديم الظرف للاهتمام به لإثارة الطمع وللتشويق إلى تعيين إبانه حتى إذا ورد ما فيه خيبة طمعهم كان له وقع الكآبة على نفوسهم حينما يسمعونه.
وإعادة {يومئذٍ} تأكيد.
وذِكر وصف المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بأنهم مجرمون بعد أن وصفوا بالكفر والظلم واليأس من لقاء الله.
وانتفاءُ البشرى مستعمل في إثبات ضده وهو الحزن.
وحجر بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال بفتح الحاء وضمها على الندرة فهي كلمة يقولونها عند رؤية ما يُخاف من إصابته بمنزلة الاستعاذة.
قال الخليل وأبو عبيدة: كان الرجل إذا رأى الرجل الذي يَخاف منه أن يقتله في الأشهر الحرم يقول له: {حِجْرًا محجورًا}، أي حَرام قتلي، وهي عوذة.
وحجر مصدر: حجَره، إذا منعه، قال تعالى: {وحرث حِجر} [الأنعام: 138]، وهو في هذا الاستعمال لازم النصب على المفعول المطلق المنصوب بفعل مضمر مثل: معاذ الله، وأمّا رفعه في قول الرّاجز:
قالت فيها حيدة وذُعْر ** عَوْذ بربي منكمُ وحُجْر

فهو تصرف فيه، ولعله عند سيبويه ضرورة لأنه لم يذكر الرفع في استعمال هذه الكلمات في هذا الغرض وهو الذي حكاه الراجز.
وأمّا رفع حجر في غير حالة استعماله للتعوذ فلا مانع منه لأنه الأصل، وقد جاء في القرآن منصوبًا لا على المفعولية المطلقة في قوله تعالى: {وجعل بينهما برزخًا وحِجْرًا محجورًا} [الفرقان: 53]، فإنه معطوف على مفعول {جعل} وسننبه عليه قريبًا.
و{محجورًا} وصف ل {حجرًا} مشتق من مادته للدلالة على تمكن المعنى المشتق منه كما قالوا: ليل أليل، وذيل ذائل، وشِعْر شاعر.
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)}.
كانوا في الجاهلية يعدّون الأعمال الصالحة مَجلبة لخير الدنيا لأنها ترضي الله تعالى فيجازيهم بنعم في الدنيا إذ كانوا لا يؤمنون بالبعث، وقد قالت خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم حين تحيّر في أمر ما بدأه من الوحي وقالَ لها: «لقد خشِيتُ على نفسي»، فقالت: والله لا يخزيك الله أبدًا إنك لتصل الرحم وتَقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
فالظاهر أن المشركين إذا سمعوا آيات الوعيد يقولون في أنفسهم: لئن كان البعث حقًّا لنجدنّ أعمالًا عملناها من البرّ تكون سببًا لنجاتنا، فعلم الله ما في نفوسهم فأخبر بأن أعمالهم تكون كالعدم يومئذٍ.
والقدوم مستعمل في معنى العَمْد والإرادة، وأفعال المشي والمجيء تجيء في الاستعمال لمعاني القصد والعَزم والشروع مثل: قَام يفعل، وذَهب يقول، وأقبل، ونحوها.
وأصل ذلك ناشىء عن تمثيل حال العامد إلى فعل باهتمام بحال من يَمشي إليه، فموقعه في الكلام أرشق من أن يقول: وعَمَدْنا أو أردنا إلى ما عملوا.
و{مِن} في قوله: {من عمل} بيانية لإبهام {ما} وتنكير {عمل} للنوعية، والمراد به عمل الخير، أي إلى ما عملوه من جنس عمل الخير.
والهباء: كائنات جسمية دقيقة لا تُرى إلا في أشعة الشمس المنحصرة في كوّة ونحوها، تلوح كأنها سَابحة في الهواء وهي أدق من الغبار، أي فجعلناه كهباء منثور، وهو تشبيه لأعمالهم في عدم الانتفاع بها مع كونها موجودة بالهَباء في عدم إمساكه مع كونه موجودًا، وهذا تشبيه بليغ وهو هنا رشيق.
ونظيره قوله تعالى: {وبُسّت الجبالُ بسًّا فكانت هباءً منبثًا} [الواقعة: 5، 6].
والمنثور: غير المنتظم، وهو وصف كاشِف لأن الهباء لا يكون إلاّ منثورًا، فذكر هذا الوصف للإشارة إلى ما في الهباء من الحقارة ومن التفرق.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)}.
استئناف ابتدائي جيء به لمقابلة حال المشركين في الآخرة بضدها من حال أصحاب الجنة وهم المؤمنون، لأنه لما وصف حال المشركين في الآخرة عُلم أن لا حظ لهم في الجنّة فتعينت الجنة لغير المشركين يومئذ وهم المؤمنون، إذ أهل مكة في وقت نزول هذه الآية فريقان: مشركون ومؤمنون.
فمعنى الكلام: المؤمنون يومئذ هم أصحاب الجنة وهم {خير مستقرًا وأحسن مقيلًا}.
والخير هنا: تفضيل، وهو تهكم بالمشركين، وكذلك {أحسن}.
والمستقر: مكان الاستقرار.
والمقيل: المكان الذي يؤوى إليه في القيلولة والاستراحة في ذلك الوقت من عادة المترفين. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الذين لا يرجون لقاء الله قالوا: لولا أنزل علينا الملائكة، أو نرى ربنا، ولولا في هذه الآية للتخصيص.
والمعنى أنهم طلبوا بحث وشدة أن تنزل عليهم الملائكة أو يرون ربهم، وهذا التعنت الذي ذكره الله عنهم هنا من طلبهم إنزال الملائكة عليهم، أو رؤيتهم ربهم ذكره في غير هذا الموضع كقوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 92] وقولهم: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} قيل: فتوحي إلينا كما أوحت إليك، وهذا القول يدل له قوله تعالى: {قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} [الأنعام: 124] الآية وقيل: لولا أنزل علينا الملائكة فتراهم عيانًا، وهذا يدل له قوله تعالى: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلًا} [الإسراء: 92] أي معاينة على القول بذلك، وقد قدمنا الأقوال في ذلك في سورة بني إسرائيل.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: لا يرجون. قال بعض العلماء: لا يرجون أي لا يخافون لقاءنا لعدم. إيمانهم بالبعث. والرجاء يطلق على الخوف كما يطلق على الطمع. قال بعض العلماء: ومنه قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] قال أي لا تخافون لله عظمة، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي:
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ** وخالفها في بيت نوب عواسل

فقوله لم يرج لسعها: أي لم يخف لسعها، وقال بعض أهل العلم: إطلاق الرجاء على الخوف لغة تهامة، وقال بعض العلماء: لا يرجون لقاءنا لا يأملون، وعزاه القرطبي لابن شجرة وقال: ومنه قول الشاعر:
أترجو أمة قتلت حسينًا ** شفاعة جده يوم الحساب

أي أتأمل أمه الخ. والذي لا يؤمن بالبعث لا يخاف لقاء الله، لأنه لا يصدق بالعذاب، ولا يأمل الخير من تلقائه، لأنه لا يؤمن بالثواب.